عن خراطة الخشب

١١ مايو ٢٠٢٥
زاوية

منذ مئات السنين، كانت خراطة الخشب حرفةً متجذّرة في حياة الناس، تبدأ من الحاجة وتنتهي بالإبداع. لم تكن يومًا مجرد صنعة، بل حوارٌ بين الحرفي والخشب، بين اليد والفكرة. كان الأب يعلم ابنه، والابن يضيف من روحه على ما تعلّمه، فتنتقل المعرفة كما تنتقل الجذور في التربة."

"في الخراطة، ليست الأداة وحدها ما يصنع الشكل؛ بل الإحساس، والانتباه لتجاوب الخشب، لما يقوله حين يُدار على المخرطة. كثيرون لا يعلمون أن أنواع الخشب تختلف، أن لكل نوع صوتًا، ورد فعل، وحتى مزاجًا. الحرفي الخبير وحده من يصغي لتلك الفروق، ويتعامل معها كما يتعامل الرسام مع ألوانه."

"أدوات الخراطة قد تبدو بسيطة للناظر من بعيد: مخرطة، أزاميل، مقاشط، ومجموعة من المسامير. لكنها في يد الحرفي تتحول إلى أدوات نحت دقيق، كل أداة تُستخدم بزاوية معينة، وعمق محسوب، وسرعة متدرجة. كل خطأ قد يُفسد القطعة بالكامل."

"ومع تطور الزمن، تطورت الأدوات، فالمخرطة التي كانت تُدار باليد أو القدم، أصبحت اليوم كهربائية، أكثر سرعة ودقة. لكن رغم ذلك، لا تزال مهارة اليد وخبرة العين هي ما يميز الحرفي الأصيل عن الآلة. الحرفة هنا لا تُختصر في التكنولوجيا، بل في الفهم العميق للمادة."

"الخشب نفسه لم يعد كما كان. قديمًا، كانت الأنواع المحلية متاحة بسهولة: السدر، السمر، الزان، والمرخ. اليوم، مع تغيّر المناخ وندرة بعض الأنواع، أصبح الحرفي يلجأ إلى الخشب المستورد أو الصناعي، وهو ما يُغيّر من طبيعة المنتج ومتانته وحتى إحساسه عند الاستخدام."

"ورغم هذا التغير، ما زالت الخراطة تُمارَس، وإن كان عدد ممارسيها يتناقص. قلة من الشباب يتجهون اليوم نحو هذه الحرف، خاصة مع ضعف العائد المادي، وصعوبة تسويق المنتجات، ونظرة المجتمع التي كثيرًا ما تستخف بالعمل اليدوي، أو تراه ترفًا لا ضرورة له."

"لكن هناك من لا يزال يؤمن. يؤمن أن الحرفة ليست فقط مصدر رزق، بل هوية. أن قطعة الخشب حين تدور على المخرطة، يمكن أن تُروى بها قصة، أو تحفظ بها ذكرى. أن في حوافّ الوعاء المنحوت، أو ملمس الملعقة المصقولة، ما لا تستطيع الآلة أن تمنحه: روح الإنسان."

"وهكذا، تبقى الخراطة قائمة، لا على السوق أو الشهرة، بل على شغف الحرفي، وعلى الرغبة في أن تظل يد الإنسان قادرة على تشكيل الخشب، كما شكل الخشب يومًا تفاصيل حياتنا."